وسط قواعد صارمة.. قيود اجتماعية متزايدة في المدن الإيرانية تحاصر المرأة
وسط قواعد صارمة.. قيود اجتماعية متزايدة في المدن الإيرانية تحاصر المرأة
لم تعد المدينة في إيران مساحةً حياديةً للحياة والعمل والتنقّل، بل تحوّلت إلى شبكة معقّدة من أدوات السيطرة والرقابة، طالت جسد المرأة وحقوقها وحريتها في الوجود والتحرّك.
وبين سلطة الدولة وسلطة المجتمع والتقاليد، وجدت النساء أنفسهنّ محاصرات داخل فضاءات صُمّمت لا لاحتوائهنّ، بل لتقييدهنّ وإخضاعهنّ، بحسب ما ذكرت وكالة "أنباء المرأة"، اليوم الاثنين.
ولم يعد القمع يمارس فقط عبر القوانين والدوريات الأمنية، بل تجلّى أيضاً في العمارة، والتخطيط الحضري، والأنماط الاجتماعية التي حوّلت الشارع والساحة والحديقة إلى مناطق خطرة ومليئة بالتهديد.
كراهية النساء في الحضر
تحوّلت المساحات الحضرية في إيران إلى واحدة من أبرز أدوات الانضباط الاجتماعي والجندري، حيث فُرضت على النساء أنماط سلوك ولباس وحركة محددة، جرى تكريسها بالقانون والممارسة اليومية.
وأُعيد تعريف الشوارع والساحات والحدائق ليس كمجالات عامة مفتوحة، بل كمناطق خاضعة لقواعد صارمة، تُراقَب بالكاميرات وتُسيطر عليها الدوريات الأمنية.
وحُرمت فئات واسعة من النساء، لا سيما في المناطق المهمَّشة، من الوصول المتكافئ إلى الخدمات والتعليم والعمل، ما عمّق فجوة الإقصاء وزاد من هشاشة وجودهنّ في المدينة.
وفرضت السياسات الحضرية نمطاً من التمييز المكاني، جرى فيه تقليص فرص حضور النساء في المشهد العام، فيما جرى تعزيز النظرة إليهنّ ككائنات يجب ضبطها ومراقبتها.
وتحولت أماكن الجلوس والتجمّع إلى مساحات غير مرحّبة بالنساء، بعد إزالة المقاعد وإغلاق الساحات العامة وتشديد القيود على الوقوف والتجمّع، في مشهد عبّر بوضوح عن تحالف غير معلن بين التخطيط العمراني والنظام الأمني في مواجهة المرأة.
قمع النساء في المدن
تصاعد حضور الأجهزة الأمنية في مدن مثل زاهدان وكرمانشاه والأهواز، في أعقاب الاحتجاجات المتعاقبة منذ عام 2019، ما حوّل الفضاء الحضري هناك إلى ساحة دائمة للرقابة.
وانتشرت نقاط التفتيش، وكثُرت الدوريات، وتنامت المراقبة عبر الكاميرات، ما خلق مناخاً عاماً من الخوف والضغط المستمر.
وتعرّضت النساء في زاهدان، خاصةً بعد أحداث عام 2022، لنوعٍ مضاعف من القمع، ليس فقط بسبب كونهنّ نساء، بل لانتمائهنّ العرقي والديني.
وقُيّدت حركتهنّ داخل المدينة، وتعرّضن لنظرات المراقبة والاتهام والوصم، ما حدّ من مشاركتهن في أي نشاط اجتماعي أو مدني.
وفي كرمانشاه، جرى تدمير مساحات كانت تُستخدم للتجمّعات والعلاقات الاجتماعية، حيث استُبدلت الساحات بأنفاق وجسور تحت ذريعة التنظيم المروري، بينما الهدف الحقيقي كان تفكيك البنية الاجتماعية ومنع أي شكل من أشكال التجمّع.
أما في الأهواز فقد تجسّد القمع في الرقابة المشدّدة على لباس النساء العربيات، ليصبح الجسد ذاته ساحة للصراع السياسي والهوية.
المراقبة على الجسد والروح
خضع جسد المرأة في المدن الإيرانية إلى مستويات متشابكة من المراقبة، لم تقتصر على الحضور الأمني الظاهر، بل شملت حتى الرقابة غير المرئية التي زرعت الخوف داخل النفوس.
وتحوّل القلق من الملاحقة والمساءلة إلى شعور دائم، رافق النساء في تحرّكاتهن اليومية.
ونشأ لدى كثيرات شعور مزمن بعدم الأمان، ترافق مع تراجع الثقة في الفضاء العام، وانسحاب تدريجي من المشاركة الاجتماعية.
وامتد أثر ذلك إلى الصحة النفسية، حيث سُجّلت حالات متزايدة من القلق والاكتئاب والعزلة، نتيجة العيش الطويل في بيئة عدائية تُجرّد المرأة من إحساسها بحقها في الوجود بحرية.
وتحوّلت المدينة من مساحة حياة إلى فضاء معادٍ، تُجبر فيه المرأة على تقليص حضورها، وضبط صوتها، وتخفيف حركتها، بل والتشكيك في وجودها نفسه.
القمع داخل المنازل
لم تتوقف السيطرة عند حدود الشارع، بل تسلّلت إلى داخل البيوت عبر منظومة اجتماعية محافظة أعادت إنتاج دور الدولة من خلال العائلة، وشارك الأب والأخ والجار والمجتمع المحلي في مراقبة النساء، تحت ذرائع الشرف والتقاليد والدين.
وتعرّضت كثير من النساء للعنف المنزلي والتهديد والتشهير، في حال خالفن القيود المفروضة عليهن. وتحوّل المنزل، الذي يُفترض أن يكون ملاذاً آمناً، إلى امتدادٍ آخر لمنظومة القمع والعقاب.
وتضافرت سلطة المجتمع مع سلطة الدولة لتطويق المرأة من كل الجهات، ما جعل محاولاتها للتمرد أو التحرر محفوفة بالمخاطر.
وتكرّس هذا الواقع في المناطق الأكثر محافظة، حيث أضعفت الروابط التقليدية أي إمكانية للرفض أو المقاومة، وأُجبرت النساء على تبنّي رقابة ذاتية قاسية، حوّلتهنّ إلى سجّاناتٍ لأنفسهن، خوفاً من العقاب الاجتماعي.
إعادة تشكيل الأدوار
ثبت من خلال التجربة اليومية للنساء في إيران أن الفضاء الحضري لم يعد بنيةً خدمية، بل أداة سياسية تُستخدم لإعادة تشكيل الأدوار، وترسيخ الهيمنة الذكورية، وإقصاء النساء من المجال العام، وتحوّلت الشوارع والجدران والمباني إلى رموز تذكّر المرأة بحدود وجودها المفروض عليها.
وأظهرت الوقائع أن تحرير المرأة لا يقتصر على تغيير القوانين، بل يتطلّب تفكيك البنى المكانية والاجتماعية التي تُشرعن القمع بهدوء. وأثبتت أيضاً أن جسد المرأة لا يزال يُنظر إليه كتهديد يجب ضبطه، لا ككيان يجب حمايته واحترام حقوقه.
وانتهى المشهد الحضري في إيران إلى كونه ساحة صامتة لحرب طويلة على النساء، حرب لا تُرى بوضوح لكنها تُمارَس يومياً عبر المراقبة والإقصاء والخوف.
وفي ظل هذا الواقع، تحوّلت مقاومة النساء إلى فعل بقاء، ومسألة كرامة، وصراع من أجل الحق في الوجود داخل مدينة سُلبت منها إنسانيتها.











